القائمة الرئيسية

الصفحات

شريط الاخبار



د.محمد منصوري
المواطنة من أرقى التعابير التي أنتجتها العولمة وتبنتها عديد من الدول المعاصرة، وكان الغرض من استعمال هذا التعبير هو الفصل مع كل المفاهيم المتطرفة التي كانت سائدة في المجتمعات السابقة من قبيل القومية والوطنية. فمن المفروض إذن أننا بالمواطنة نكتسب هوية جماعية شاملة توحد بين جميع المواطنين على اختلاف لغتهم وثقافتهم ودينهم. بل والأكثر من ذلك يصبح حب الوطن جزء لا يتجزأ من محبة العالم الإنساني ككل.

والمغرب كان ولا يزال في طليعة الدول التي صادقت على المعاهدات الدولية وتبنت المفاهيم المعاصرة ذات الأبعاد العالمية. لكن هل يمكننا الحديث عن المواطنة في ظل التشريعات والقوانين الحالية؟ وبتعبير آخر: هل نحن، كما نردد في كل المحافل الدولية، دولة مدنية ديموقراطية تعترف بالاختلاف وتثمنه وتساوي بين المواطنين على أساس الانتماء للوطن لا للدين والعرق واللغة؟ أم أننا دولة بمرجعية دينية واحدة تُستَلهم منها كل القوانين والمناهج التربوية والتعليمية ويكون فيها الطابع الديني الواحد ظاهرا جليا ومسيطرا على كل مناحي الحياة الجماعية؟

أظن أنه اختيار يجب علينا اتخاذه لأن المرحلة القادمة لا تقبل الازدواجية في المعايير والأنظمة. وإذا كان المجتمع فيما مضى لا يهتم كثيرا بهذه الأمور نظرا لارتفاع نسبة الجهل والأمية وانشغال الجمهور بضروريات الحياة اليومية، فإن شباب اليوم بناة المستقبل يقضون معظم وقتهم في العالم الافتراضي ومواقع التواصل الاجتماعي لا تفوتهم معلومة عن مجتمعهم والعالم من حولهم. فهم ينظرون من خلال شاشة حاسوبهم أو هاتفهم الذكي إلى عالم فسيح الأركان متعدد الثقافات والأديان، يقيمون علاقات من جميع البلدان ويعرفون ما كان بالأمس في علم السبحان. وفي اللحظات القليلة التي يعودون فيها إلى عالم الحقيقة يشعرون وكأنهم سافروا في الزمن ووجدوا أنفسهم في القرون العتيقة.

معظم شبابنا اليوم بات يفكر في الهجرة ولأسباب عديدة يوحد بينها هذا الفرق الصارخ بين العالمين: العالم المعاش والعالم الافتراضي. فإذا هاجر آباؤنا بالأمس مكرهين طلبا في العمل والمعيشة وظلوا متشبثين بهويتهم المغربية، فشبابنا اليوم يهاجرون كذلك مكرهين ولكن في هذه المرة رغبة في الحرية والكرامة الإنسانية ولا ننتظر من هؤلاء عودة ولا زيارات موسمية. فالحديث هنا عن هجرة الأدمغة والموارد البشرية وكل الشباب الباحثين عن فرصة لإظهار القدرات الكامنة فيهم ومن يشعرون بالغربة في وطنهم ومن يشعرون بأنهم غير مرغوب فيهم. وهذا كله نتاج التعصب وعدم إشراك كل فئات المجتمع في المشاورة وصنع القرار.

ماذا ينقصنا يا ترى لكي نخطو تلك الخطوة التاريخية نحو الانفتاح الحقيقي والتعددية. فقد حبانا الله بملك كريم عرفه العالم بعدله وحلمه وتواضعه، يحب شعبه ويسعى دون كلل لخدمته. ونحن نبادله المحبة بالعشق ونحفظه في قلوبنا ونفديه بأنفسنا. ملكنا هو أمير المؤمنين وهي شاملة لكل ملة ودين، ودستورنا الحديث الذي يعد من أفضل الدساتير التي أخرجت للعالمين يصرح بأن العهود والمواثيق الدولية تسمو على كل القوانين. فما الذي يجعلنا نتخبط ذات الشمال وذات اليمين؟ ما الذي يثنينا عن الصراط المبين؟ صراط الرقي والتقدم والمساواة بين جميع المواطنين.

كيف نجرم كل من "زعزع" عقيدة المسلمين، ونصادق على المعاهدات الدولية التي تنص على حرية العقيدة والدين. وهي معاهدات توضح جليا أن الأمر يشمل حرية اختيار الدين وتغييره والترويج له. كيف نفسر كوننا نؤدي الضرائب في إدارات تابعة لوزارة المالية ككل الدول الحداثية ولا ندفع الزكاة لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية وحين يتعلق الأمر بمدونة الأسرة نتمسك بالنصوص الشرعية ونصبح فجأة دولة دينية. كيف ندرس مادة التربية على المواطنة ونعلم الطفل والناشئة معاني الحرية والتعايش والعالمية واحترام الآخر المختلف عنا والتعاون معه لخدمة الصالح العام، وفي نفس الوقت ندرس مادة التربية الإسلامية وما تتضمنه من فتوحات وشروحات للجنة والنار والمؤمنين والكفار ... كفى أحس بصداع في رأسي وقد يليه انفجار !!

حين نعلق على دول الشمال ونتهمها بالتعصب والعنصرية فقط لأنها تمنع ارتداء النقاب وليس الحجاب وتحجب الآذان رغم وجود المساجد في كل مكان، فكيف ترانا نوصف نحن الذين لا نسمح حتى ببناء الكنائس ونفرض التربية الإسلامية في المدارس. نحن نفرح ونهلل إذا تمكن شيوخ المهجر من "زعزعة عقيدة مسيحي"، ونُرحِّل أو نلقي في السجن كل من سولت له نفسه "زعزعة عقيدة مسلم". ثم بالله عليكم هل هناك من عقيدة تُزعزع ؟! العقيدة هي كالزرابي النفيسة التي لا ننتهي من حياكتها مهما طال بنا الزمن، خيوطها تنسج من موروثنا وأفكارنا وتفاعلاتنا وكلما أضفنا لها لونا زادت رونقا وجمالا. والتعصب الحقيقي هو اعتبار العقيدة شيئا موروثا لا يتغير ولا يتطور رغم أن الكون وما فيه قد تحول.

نحن لا نريد أن نحذو حذو بعض الدول الغربية أو أن نصير مثلها، فهي بالرغم من تقدمها المادي والتكنولوجي تعرف انحلالا في المعايير الأخلاقية وتصدعا في العلاقات الاجتماعية بسبب تغييب الجانب الروحاني من المناهج التربوية. نحن ندعو إلى تدعيم أسس الديموقراطية والحداثة والمواطنة وبناء دولة الحق والقانون وتطوير المناهج التعليمية لمواكبة التقدم العلمي والتكنولوجي، ولكن دون إهمال الجانب الروحاني في حياتنا فهو الذي يهب المجتمعات نعمة التوازن والاتزان. لذلك علينا أن نعطي أطفالنا دروسا في الأخلاق وليس دروسا في الدين، وأن نربيهم تربية روحانية مبنية على قيم الصدق والإخلاص ومحبة العالم الإنساني. وعلى المجتمع أن يعي جيدا أنه "لَمْ يَزَلْ كانَ إِصْلاحُ العَالَمِ بِالأَعْمالِ الطَّيِّبَةِ الطَّاهِرَةِ وَالأَخْلاقِ الرَّاضِيَةِ المَرْضِيَّةِ".

لنبني إذن مغربا متسامحا تتعايش فيه الثقافات والمعتقدات، لا نحاسب بعضنا البعض على أفكارنا وانتماءاتنا بل على أعمالنا وخدماتنا وما نقدمه لبلدنا. لنبني مغربا يكون فيه المواطنون سواسية وتصبح فيه المواطنة رمزا للهوية. لنبني مغربا منفتحا على الآخر مناهضا لكل أشكال التعصب والحمية. لنبني مغربا قويا بكفاءاته غنيا بموارده البشرية. لنبني مغربا بقوانين مدنية تحترم كل المواثيق الدولية. لنبني مغرب المؤسسات ومغرب الحريات ومغرب القيم العالمية. لنبني مغربا أفضل، لنبني عالما أفضل ...

تعليقات