القائمة الرئيسية

الصفحات

شريط الاخبار

فيلم "حقيقة" .. التحقيق التلفزيوني في مواجهة سلطة الفساد





فجأة انتهى فيلم "حقيقة" (صدر في 6-4- 2016) للمخرج جيمس فاندربيلت. مرت ساعتان سريعا بفضل سرد براغماتي دون حشو. ولا لحظة ملل في فيلم فيه حكاية بإيقاع سريع متماسك، بمحتوى يهم الجمهور.. قصة تسبق تفكير المتفرج، لذا يصعب عليه توقع مآلاتها، يضاف إلى ذلك "كاستينغ" قوي لتقديم شخصيتي صحافية شابة متحمسة وشيخ غطى أحداث القرن الماضي..

هناك كيت بلانشيت التي حصلت على أوسكار أحسن ممثلة، عن دورها المعقد على حافة الجنون في فيلم "بلو جاسمين" 2013 لوودي آلان، وروبير ريدفورد الذي لم يفقد شيئا من هالته على أبواب الثمانين؛ ممثلان لهما جاذبية بصرية ويؤديان مشاعرهما بتلقائية، وهناك ثراء في حركاتهما وملامحهما التي تجسد الحالة المزاجية التي يولدها الحدث.

تتعاون الشابة والشيخ (ماري ودان) لكشف الحقيقة للمواطنين مع توالي التسريبات؛ دبلوماسية وعسكرية ومالية.. وحين تكثر التسريبات يشعر الناس بالخزي لأن قادتهم خذلوهم. هنا يأمل الناس أن يقدم الإعلام الحقيقة للمواطن ليسترد كرامته.. يقول المحقق في الفيلم: "إذا توقفت الصحف عن طرح الأسئلة فقد خسر الشعب".

يعمل الشيخ والشابة -اللذان يفخران بكشف فضيحة سجن أبو غريب في العراق- من خلال تحقيق صحافي ببهارات تحقيق بوليسي للوصول إلى أدلة وشهود الإدانة بعد تسرب وثائق عسكرية. الأدلة عبارة عن وثائق وصور وحوارات وشهادات. وفي ضربة حظ توصل المحققان بهدية عبارة عن وثائق مكتوبة مسربة تثبت اتهامهما، ومع ذلك دققا فيها.



في أسئلة التحقيق يكون الجواب بنعم أو لا.. هذا الوضوح السقراطي في الحوار يرعب المسؤولين الذين تطلب منهم الشهادات، وقد تعودوا الالتفاف على الأسئلة. الوضوح جارح كشفرة حلاقة، بينما الغموض ولغة الخشب مريحة.. يقول محامي لموكلته في الفيلم: "عندما يسألونك عن التوقيت لا تشرحي لهم كيف يصنعوا ساعة".

يقدم الفيلم السلطة الرابعة في مواجهة سلطة الفساد، في عز تسريبات "أوراق باناما"، وهو ما يوفر للمتفرج فرصة للتفكير في الموضوع.. يقول جون رينوار: "إن المتفرج هو الذي يكمل الفيلم ويعطيه معناه".

ومما يساعد على الإمساك بالمعنى أن الفيلم متجذر في بيئته الأمريكية، ويلتقط روح العصر، بدليل بصمة حرب فيتنام ونفط تكساس. فيلم يتهم آل بوش بصلة نفطية قديمة قوية بآل ابن لادن، ويتهم بوش الابن بالاستفادة من فساد ضباط الجيش الذين تستروا على مجندين.

عادة يضبط اللصوص الصغار بسرعة متلبسين والمسروق في يدهم، بينما يصعب إثبات جرائم الكبار. وقد تطورت أساليب الاحتيال على العدالة. لم يعد القاضي يحقق، صار الصحافي يقوم بالمهمة..يفترض التحقيق الصحافي أن المتهم مدان إلى أن تثبت براءته. بينما يفترض التحقيق القضائي أن المتهم بريء حتى تتم إدانته...



بعد بث التحقيق جاءت ردود الأفعال مزلزلة. اتضح أنه بسبب الإنترنيت صار التحقيق يجري في أغورا علنية مفتوحة، سبعة أيام على سبعة، وبإمكان أي كان أن يفحص الأدلة لاختبار مصداقية المحققين. هكذا صار المحقق أشبه بزورق صغير في مواجهة أمواج عاتية من الشك والتخوين..لا يمكن إنهاء الجدل إن لم تظهر الحقيقة كاملة..صار المحققان موضوعا للتحقيق؛ هكذا انقلب السيناريو.

كل جالس خلف حاسوبه يفحص الوثائق ويشكك ويشتم، لأن الأمر يتعلق بالجيش، وهو بقرة مقدسة في الدولة القومية مهما كانت التسريبات. وحين يتعلق الأمر بدعم الجيش والرئيس فذلك سلوك وطني؛ والوطنية أهم من الحقيقة. ومن يخجل من الفضائح ويشهر بها يصنف بأنه ليبرالي أو يساري.. واضح أن المكارثية لم تختف تماما في أمريكا.

الفيلم درس تطبيقي لطلبة معاهد الصحافة في الأسلوب والمحتوى..لقد انتقل التحقيق من الصحف إلى التلفزيون والسينما. التحقيق التلفزيوني أقوى من الورقي. يجري صراع مرير حول المحتوى والتوقيت لتحقيق السبق وزيادة المتابعة مع الحفاظ على المصداقية...في هذه الأجواء يجري سباق بين القنوات ورواد الإنترنيت الذين يبحثون ويبثون فورا...سباق الزمن يزيد توتر الأحداث وقلق الشخصيات. في حقل الإعلام بشر على الحافة لأنه يصعب قول الحقيقة والحفاظ على مصدر الرزق.

في هذا السباق هناك فواتير يدفعها الصحافيون، من صحتهم ومن مصداقيتهم؛ وهكذا نرى الأضواء تنطفئ عن المحقق القدوة الذي يفقد نفوذه...كان ذلك نتيجة هدية مسمومة.

benaziz12@gmail.com

تعليقات